ملخص
"يعتقدون أنني أناني متهكم خفي المشاعر جامد التعبير... وهذا حقيقي لكنه لا يكفي"
من المؤكد أن الكاتب الإيرلندي جيمس جويس المعتبر من مؤسسي الحداثة الروائية في القرن الـ20، ينتمي إلى تلك النوعية من الناس الذين كلما عرفتهم أكثر تحس أنهم باتوا أكثر انغلاقاً عليك. والأدهى من هذا أنه يتسم بخصوصية تجعله لا يأبه بأن يقول عن نفسه: "ثمة من يعتقد أنني من نوعية يوليسيس (بطل روايته الكبرى)، جامد التعبير غامض الفكر، خفي المشاعر... باختصار: يسوعي جاف، أناني ودائم التهكم على الآخرين" فهل يقول جويس هذا الكلام لينفي عن نفسه كل تلك الصفات؟ بل على العكس ليؤكدها، ولكن ليستطرد: "ولا شك في أن هذا حقيقي إلى حد ما، لكنه ليس كل ما أنا كائنه على أية حال (وينطبق هذا الكلام على يوليسيس أيضاً)، فالحال أنني اعتدت أن أستخدم نمط العيش هذا من أجل الحفاظ على كائناتي وإبداعاتي الخاصة". وتأتي هذه السطور في رسالة كتبها جيمس جويس إلى هارييت شوويفر، ناشرة بعض رواياته، وفاعلة الخير التي كانت اعتادت أن تمده بمبالغ مالية تقيه العوز وتساعده على القيام بأود أفراد أسرته.
غير صالحة للنشر
الرسالة مؤرخة في 12 يونيو (حزيران) 1921. وكان من المفروض، تبعاً لمنطق جويس وأخلاقياته الخاصة، ألا تنشر أبداً. فالرجل كان دائماً ما يسعى إلى إخفاء عواطفه وإبقاء أموره الذاتية خارج التداول. غير أن منطق الحياة الأدبية يفرض عكس ذلك. من هنا، وعلى رغم تحفظاته في حياته، عرفت هذه الرسالة و425 رسالة أخرى كتبها جويس، طريقها إلى النشر عام 1957 - أي بعد موت الكاتب بـ16 عاماً - في كتاب حرره ستيوارت غيلبرت. وقد أسهم هذا الكتاب يومذاك في إعطاء صورة أخرى لصاحب "يقظة فينيغان" و"صورة الفنان في شبابه"، تختلف إلى حد كبير عن الصورة المعهودة عنه. مع هذا، لا بد من أن نقول منذ الآن إن ما نشر في الكتاب ليس كل الرسائل التي كتبها جويس في حياته... غير أن تنوع المرسل إليهم وتنوع المواضيع التي تتناولها هذه الرسائل جعلا أهل الاختصاص وقراء جويس عموماً يرون أن الرسائل المنشورة يمكنها أن تعطي صورة عامة وإلى حد ما شديدة القرب لكل ما كان جويس يعبر عنه في كل رسائله.
برودة اللغة والمشاعر
من هنا يقول الباحثون إن أول ما يدهش المرء في مراسلات جويس هو برودته الحقيقية وبرودة لغته ومشاعره فيها، ناهيك بجفاف أسلوبه وتحفظه الدائم. فالكاتب، وفق بعض هؤلاء الباحثين، وفي القسم الأكبر من الرسائل يتناول المواضيع التي يطرحها، أو يجيب عن أسئلة مراسليه، ولكن دائماً من دون أن يترك نفسه على سجيتها، كما يفعل مثلاً كتاب كبار جعلوا كتابة الرسائل جزءاً من فنهم. والواقع أن الرسالة إلى هارييت شوويفر تعطينا مفتاحاً أساسياً لفهم ما نقول، ذلك أن جويس حرص دائماً كما يبدو على أن يسعى إلى "الحفاظ على إبداعاته وكائناته" وهو الذي كان يريد لنفسه أن يكون كاتباً، من دون أن يكون من أهل الأدب. كان جيمس يعرف قيمة نفسه الحقيقية. من هنا، اعتبر رسائله - ومن دون أن يتوقع نشرها على الملأ - مكاناً للتعبير عن نفسه ككاتب، من دون أن يدمج شخصه في ذلك. ويبدو - وفق أحد الباحثين - أن الكاتب كان مقتنعاً بأنه "ينتمي إلى كبار المبدعين، ولكن بفضل عمله الدؤوب وبفضل موهبته وصبره، لا بفضل عبقرية معينة عمادها الخلط بين نفسه وكتاباته".
صحيح أن هذا الرأي التفسيري قد يكون غريباً من مؤلف "يوليسيس" و"صورة الفنان في شبابه"، غير أن الحياة الأدبية اعتادت عليه، واعتادت أن تنظر إلى أدب جويس بصفته نتاج عقل جبار، عقل يخلو من المشاعر والأحاسيس العنيفة، اللهم إلا إذا استثنينا هنا بعض قصصه القصيرة (لا سيما منها المجموع في "أهل دبلن") علماً أن هذه القصص تعتبر عادة من أقل إنتاجات جويس أهمية.
حميمية غائبة
باختصار إذاً، تكاد الحميمية تغيب كلياً عن هذه الرسائل (فهل تراها تحضر في رسائل أخرى له لم تنشر، أو نشرت ولم نعلم بها؟). مع هذا، يمكننا أن نستثني هنا بعض الرسائل المنشورة، والتي كان جويس في بعض مراحل حياته يبعث بها إلى ابنه وابنته جورج ولوتشيا، كما إلى صديق أو صديقين له. غير أن غياب الحميمية لا يعني بالطبع أن جملة الرسائل لا تكشف ما اعتبره كاتبو سيرة جويس سمتين أساسيتين من شخصية الكاتب: أولى هاتين السمتين اهتمامه اليومي والدائم والحاسم بعمله الكتابي، وثانيتهما قلقه المستمر على أسرته الصغيرة وتعلقه بها، خصوصاً، كما يقول واحد من كاتبي سيرة جويس "اعتباراً من عام 1935، حين راح ينشغل منه البال جدياً بتطور وضع ابنته، إذ اكتشف الأطباء أنها مصابة بمرض عقلي". وهذان الأمران يكشف عنهما جزء أساس من الرسائل، وجل رسائل هذا الجزء موجه إلى هارييت شوويفر، التي - وكما تقول لنا الرسائل نفسها - كانت من أصدقائه المقربين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سجل لـ20 سنة أخيرة
بيد أن هذا لم يكن كل شيء بالطبع، ذلك أن الأكثر أهمية في هذه الرسائل جميعاً، يظل مرتبطاً بكونها تقدم لنا سجلاً وافياً للحياة التي عاشها جويس خلال السنوات الـ20 الأخيرة من حياته، خصوصاً حين كان منشغلاً بكتابة "يقظة فينيغان"، إذ نجد في كثير من الرسائل هنا إشارات تفصيلية لتطور كتابة هذا العمل... صحيح أن الإشارات تأتي تقريرية جافة، بدلاً من أن تأتي - كما قد يمكننا أن نتوقع - تعبيرية، ما كان من شأنه أن يخلق اندماجاً حقيقياً بين النص الأدبي ومدونات حياة جيمس جويس حين كان يكتبه. مع هذا تبدو الرسائل شديدة الأهمية إذ تطلعنا، وسط حياديتها وبرودتها، على الكيفية التي كان بها يشتغل جويس على النص. وهذا في حد ذاته يبدو فائق الأهمية، ومن دون أن يتقصد الكاتب هذا الأمر بالطبع، إذ إن المتخصص بأدب جويس، أو قارئه العادي لا يمكنه أمام تركيبية لغة الكاتب وجمال أسلوبه وجدة مواضيعه، إلا أن يطرح على نفسه أسئلة جادة حول كيف تم له ذلك، وما الظروف العسيرة التي واكبت إبداعه؟ ثم خصوصاً، ما الكتب التي كان يقرأها خلال المرحلة نفسها، وما الأفكار التي كانت تطفو لديه. وفي هذا المجال لا ريب في أن في وسع المتابع أن يعثر على كل ما يريده، خصوصاً إذا كان غير مهتم حقاً بمعرفة أحاسيس الرجل ومشاعره في تلك المرحلة!
كنوز من المعلومات
من هنا، لا شك في أن الرسائل تحمل كنوزاً من المعلومات والإشارات، من ثم تحمل عدداً كبيراً من أسماء الأشخاص، والكتب، ومن تفاصيل الأفكار. ويبدأ ذلك مع رسالة مبكرة نجدها في صفحات الكتاب موجهة من جيمس جويس إلى هنريك إبسن (الكاتب المسرحي النرويجي) وتحمل مقداراً كبيراً من الحماسة والإعجاب. غير أن هذين الشعورين سرعان ما يتضاءلان في رسائل المراحل المقبلة، حيث يحل الاحترام والرغبة في السجال وفي طرح الأسئلة مكانهما. ومن هذه الرسائل ما هو موجه خصوصاً إلى تي أس إيليوت وويليام بتلر ييتس وفاليري ليربو وإزرا باوند وألبرتو سفيفو. وكلهم من معاصري جويس الذين كانت لهم علاقة ما بأدبه أو بنشر هذا الأدب أو ترجمته إلى لغات أخرى... من هنا، تطغى على رسائله إليهم رنة عملية خالصة من دون أن يفوت الرسائل أن تعكس بعض التفاصيل المفيدة لكاتبي سيرة هذا المبدع الاستثنائي.
تجوال أوروبي
وسيرة جيمس جويس (1882 - 1941) تقول لنا إنه إيرلندي درس في دبلن، ثم راح يتجول شاباً في أوروبا ويعيش ردحاً في لندن وحيناً في باريس، حتى استقر في تريستا على الحدود الإيطالية، هناك كتب معظم مؤلفاته الروائية والمسرحية والشعرية والنقدية والمنتمية إلى نوع من السيرة الفكرية. ومن أبرز أعمال جويس الذي يعتبر واحداً من مؤسسي الرواية الحديثة في القرن الـ20، لا سيما رواية ما يسمى بـ"تيار الوعي"، "يوليسيس" (1922) و"يقظة فينيغان" (1939) و"صورة الفنان في شبابه" (1916) ومجموعتا "موسيقى الحجرة" و"قصائد بفلوس قليلة" الشعريتان، ومسرحية "المنفيون" (1918).